كتاب وآراء

الذاكرة الشفهية الصحراوية: إرث يستحق التدوين.

إن من يشكك في سعة الذاكرة الشفهية الصحراوية ، وفيما توارثته على مدار الزمن ، سيجد نفسه أمام معطيات متداولة ترويها الألسن باستمرار، وتدندن بها الحناجر دون توقف ، بلهجة حسانية خالصة وبأسلوب “بيظاني” راقي ، يسوده الاحترام والوقار كما في عادة الصحراويين دائما، هذه المعطيات برمتها هي ارث شفهي تركه السلف للخلف منذ عهود خلت ، منه ما هو واقعي ، أملته التجارب والعبرة من الحياة ، ومنها ما هو من وحي الخيال تستأنس به النفس وتتسع به المخيلة ويرقى به التفكير، وكل هذه الأشياء جعلت من الصحراويين أناسا على تواصل دائم بما حفظت ذاكرتهم الشعبية جيلا عن جيل ، أوفياء لا يتخلون أبدا عن أصالتهم وتاريخهم ، وهذا ما يشهد عليه واقعهم الذي ميزته المقاومة الشديدة لكل الخدع والمناورات الهادفة إلى طمس هويتهم والتشكيك في وجودهم على أرض ألفوها قبل أي كان ، وهذه المقاومة الشريفة هي إباء يحسد عليه الإنسان الصحراوي منذ القدم وفي مختلف مناحي الحياة على تعداد تفاصيلها وحيثياتها ، بالإضافة إلى كون أن هذا الإنسان من طبعه خفة الظل و شدة التواضع مع من يبادره بالتي هي أحسن ، وهمه الأول فوق كل ذلك هو العيش بكرامة وعزة ، وبأنفة وتكبر عن الدنايا وصغريات الأمور ، ولهذا فأغلب ما جاد ويجيد به الإرث الشفهي الوافر للصحراويين هو عبارة عن دروس تربوية تجسد روح الانتماء وقمة الاعتزاز ببلاد اسمها الساقية الحمراء ووادي الذهب ، دروس هي تذكير أيضا بمآثر التاريخ وبطولات الأجداد ، وبكل ما حبلت به مخيلة الإنسان الصحراوي البدوي منذ النشأة إلى اليوم .

إن التمسك بهذه الأرض ، وبهذه الدروس القيمة ومراجعتها يعني بالنسبة للصحراويين على امتداد نسبهم وتعداد نسلهم ، التشبث بالعراقة والأصالة وبالأخلاق الحميدة وبالنهج الصحيح لمجتمع يأبى الاندثار أو الاندماج في الغير، مثلما يأبى أن ينعت بأوصاف غير لائقة تمس من هويته ومن خصاله الحميدة وجذوره الممتدة عبر التاريخ ، وعلى هذا الأساس لم تختل ذاكرة الصحراويين بتاتا في كل ما يتعلق بالأصالة وسبل المحافظة عليها ، بل ولم تنصهر عاداتهم وتقاليدهم وتراثهم رغم عاديات الدهر ومجريات الزمن .
ولمعرفة ما يدور في هذه الذاكرة الشفهية العصية على النسيان ما على أي غافل لها ، أو أي مشكك فيها سوى أن يقصد شيخا أو عجوزا من طينة هذا المجتمع ويبادره بالقول: رد أعليا يالداه ، حينذاك ستتكشف أسرار وقصص وحكايات وأمثال وحكم شعبية وروايات وأساطير وقضايا تاريخية هي من الأهمية بمكان ، وكفيلة بأن تقطع الشك باليقين لدى كل واهم وموهوم .
هنا بالضبط لك أن تتصور عزيزي القارئ وسواء كنت غافلا ، مشككا أو مقتنعا ، كم من المواضيع يمكن طرقها لاسيما وأن الموارد والمضارب متعددة ومتنوعة ، فكم من شئ في الماضي يود الإنسان الاستماع إليه والاستفسار بشأنه على اختلاف ذوقه وطبيعة تفكيره ، خصوصا إذا كان هذا الشئ مروى أو محكي من أفواه الأكابر من هذه الأمة المحافظة وله علاقة بنجاحات الحياة ؟ وكم من خطوة في هذه الحياة كذلك تدعو إلى استشارة أهل الحكمة والتجربة حتى يتم المضي قدما على سبيل سالك ، لك أن تعرف أيها القارئ وأنت المتطلع والمتلهف والباحث بين السطور عما قد يكتب ويروج لتراث شعب ظل وبات يخامره الوجود والتميز في كل شئ كهذا الإرث الشفهي الخالد ، لك أن تأمل أن ما خلته في لحظة من اللحظات أنه ضاع واختفى مع أناس زارهم الموت بغتة ، ينبغي أن يملأ رفوف المكتبات ، وأن يكون حاضرا في زحمة النشر كحق محفوظ إلى الأبد .
في لحظة تخمين كهذه يحق للغيورين من هذه الأمة الشماء تدارك ما فات وكل ما مرت به من ارث شفهي ثمين يرقى إلى أعلى درجات التنوير والتخليد لصنائع الأولين الشرفاء منها ، أولئك الذين أكسبتهم الحياة بحلوها ومرها عبرا وخصالا ومزايا نادرة تروى للزمن ، وللزمن عندهم مكانة لما يحمله للقادمين من معارف ومناهج في الحياة تحفظ من يتبعها من الضلالة والوقوع في المتاهات ، فعند الأكابر دائما كل الشوارد ترتوي وتصدر غانمة ملأ اليقين والتأكد ، ظافرة بأول الخيط المؤدي إلى الهدى وسواء السبيل ، والى الآمان والاطمئنان ، وهذا دليل مهم ، وقبلة شريفة ينبغي أن يؤمها كل نشئ جديد بعيدا عن إغراءات الآخرين ، وأهداف الماكرين العابثين بمصائر الشعوب ، فالشيوخ والعجائز عندنا صفحة ناصعة البياض تزينها رتوش الزمن التي نقرأ من خلالها ماضينا وحاضرنا وما ينبغي أن يكون عليه مستقبلنا ، ولا محالة سيطويها الدهر ، ولن يبقى إلا ما حفظناه منها وعن ظهر قلب ، أو ما سنكتبه وندونه من جديد ، ولنا هنا أن نسيل حبرا كثيرا ومدادا غزيرا في البحث ما أمكن في كنه ذاكرة شفهية يتهددها النسيان ، بل وقد يؤدي الهذيان في مرحلة عمرية ما لمن يصونونها إلى نوع من الخلط والالتباس في بعض مواضيعها ، وهنا يصبح الخوف مشروعا إن تهاونا ، بل ومؤلما إن طال الموت فجأة ولا سمح الله آباءنا وأجدادنا الموقرين أول من يلجأ إليه دائما في هذا الصدد .
إن الواقع اليوم موسوم بالمتغيرات التي قد تؤدي إلى الانحراف و”الفلتان” الثقافي لكل مجتمع بحكم تزاوج الثقافات ، وبفعل رياح العولمة الضاربة دون هوادة ، ولذلك فمن غير الطبيعي أن لا يعيد كل منا حسابه مرات ومرات عديدة ، خصوصا عندما يتعلق الأمر بمزايا هي من مكونات الذات والمصير الذي ترنو إليه ، فعدم الوقوف مع الذات وعدم مراجعة خصوصياتها أمر شائن ولا يبشر بالخير أبدا ولا يدعو حتى إلى الاطمئنان على مخزونها الشفهي الهائل الذي هو بمثابة كنز ثمين إذا دفن تلاعبت بمحتوياته ذرات الأديم بفعل الزوابع وعوامل التعرية التي لا ترحم .
لا شك أن النسيان آفة ، وأن الموت مصيبة ، لكن بالمقابل يدرك الجميع أن الذي يبقى هو الأثر الذي يقتفى من قول صالح وفعل حسن يستحق أن يروى للأجيال اللاحقة ولها أن تستنبطه وتمحصه مخافة الاندثار والالتباس ، وهذه مسؤولية في غاية الدقة والأمانة ويجب أن تكون مدعاة للغيرة والتفاخر النبيل ، مثلما يجب أن تكون قيد اهتمامات وانشغالات كل نشأ جديد ، حتى لا تضيع هذه الثروة الهائلة من المعلومات الشعبية المفيدة ، وهذا الذخر الممتد على مر التاريخ ، فليكون هذا الزخم الشفهي المتراكم مرجعا لمن يجيء لاحقا، وموسوعة لمن يفتش في ثنايا الذاكرة وفي ما ورثته عن أسلاف ميامين لا ترقى الريبة أو التقاعس بتاتا إلى أقوالهم وأفعالهم . ولكي لا نذهب ضحية لمظاهر الإغراء التي أساءت إلى بعض ماضينا الزاخر وأوهمت بعضنا بأشياء لا نعرفها من قبل وقد لا تخدمنا حتى في شئ مستقبلا ، يجب علينا أن نتمسك بما هو من عراقتنا في التاريخ ، وبكل ما نعرفه عن ذواتنا من ميزات هي حكر علينا نحن فقط ، علينا أن لا نولي وجوهنا لوجهة غير مألوفة وليست هي وجهتنا الأصلية ، ثم علينا الاهتمام بكل ما فات ورواه بأمانة أناس أوفياء وذاك شئ مهم ومشرف بكل جزم وتأكيد ، وقد يرفع من شأننا بين الأمم دائما وأبدا.
لعل ما تقوم به وزارة الثقافة في مجال العناية بكل ما له صلة بالإنسان الصحراوي منذ بواكير حياته ، هو توجه سار ومقنع يستحق كل شكر وتقدير وإشادة ، لا سيما وقد تجسد من قبل في مهرجانات ثقافية حوت كل الطقوس والأهازيج وكل ما يمت للأصالة والعراقة الصحراوية بصلة ، لينضاف الى ذلك وفي خطوة متميزة نزر قليل من الكتب والدواوين الشعرية التي برزت إلى الوجود وكانت بداية لعملية شاملة من البحث المستمر والتدوين الدقيق الهادف إلى صيانة التراث اللامادي الصحراوي وحفظه من التلف والتزوير والاضمحلال ، ولهذا كانت الالتفاتة في هذا الصدد عمل مرموق ومشرف ينم عن وعي وحذق وبعد نظر في أفق يستحق منا نحن الصحراويين كل تعاطف وتعاون للنبش في هذه الذاكرة الغنية وتدوين كل خباياها وأسرارها وكل ما تعج به من حيثيات وتفاصيل ظلت تعطي للحياة الصحراوية القديمة طعم مميز بدروس وعبر وتجارب كانت مرجعا وما زالت دليل الهدى إلى العزة والأصالة والى العراقة النقية والنجاح المستمر .
إلى هنا تبرز قيمة الذاكرة الشفهية الصحراوية بماضيها وحاضرها ، لتصبح ضرورة ملحة يتحتم الاحتفاظ بمضامينها النبيلة للمستقبل ، وهذا ما يدعو الى قرع أبواب التدوين بإلحاح وباستمرار ، والى فتح هذه الأبواب على مصراعيها بأية طريقة لاحقا ، كي يتدفق هذا المخزون الشفهي الهائل الذي لا تكدره الدلاء ، إلى مجاري تحفظه وتشعر بالأمان والاطمئنان عليه ، وان كانت إمكانياتنا الحالية لا تسمح بهذا التصور دفعة واحدة ، ولكن ومثل ما يقول الصحراويون في بعض من هذا الإرث الشفهي الثمين ” قطرة قطرة ايسيل الواد ” والعبرة هنا ونحن في بداية الطريق الى تدوين المزيد ، هي الصبر والثبات حتى تحقيق المبتغى و “كل ما هو متبوع ملحوق” وهذه عبرة أخرى تدلل على الثقة بالنفس والاعتزاز بها من أجل التغلب على العجز والقنوط و تفادي أي توقف غير مبرر في مرحلة ما من الطريق المنشود .

بقلم : محمد حسنة الطالب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق